قصيده للشاعر بدر شاكر السياب بحق الامام الحسين (عليه السلام)
ارم السماء بنظرة استهزاء | واجعل شرابك من دم الأشلاءِ | |
واسحق بظلـَّك كلَّ عرض ناصع | وأبح لنعلك أعظم الضعفاءِ | |
واملأ سراجك، إن تَقَضّى زيتهُ | مما تدرُّ نواضب الأثداءِ | |
واخلع عليه كما تشاء ذبالة | هدب الرضيع وحلمة العذراءِ | |
واسدر بغيـَّك يا يزيد، فقد ثوى | عنك الحسين ممزَّق الأحشاءِ | |
والليل أظلم والقطيع كما ترى | يرنو إليك بأعين بلهاءِ | |
أحنى لسوطك شاحبات ظهوره | شأن الذليل ودبَّ في استرخاءِ | |
وإذا اشتكى فمن المغيث وإن غفا | أين المهيب به إلى العلياءِ |
* * *
مثَّلت غدرك فاقشعرَّ لهوله | قلبي وثار وزلزت أعضائي | |
واستقطرت عيني الدموع ورنقت | فيها بقايا دمعة خرساءِ | |
يطفو ويرسب في خيالي دونها | ظلٌّ أدقُّ من الجناح النائي | |
أبصرت ظلك يا يزيد يرجُّه | موج اللهيب وعاصف الأنواءِ | |
رأس تكلّل بالخنا واعتاض عن | ذاك النضار بحيَّة رقطاء | |
ويدان موثقتان بالسوط الذي | قد كان يعبث أمسِ بالأحياءِ | |
قم فاسمع اسمك وهو يغدو سبة | وانظر لمجدك وهو محض هباءِ | |
وانظر إلى الأجيال يأخذ مقبل | عن ذاهب ذكرى أبي الشهداءِ | |
كالمشعل الوهّاج إلا إنها | نور الإله يجل عن إطفاءِ |
* * *
عصفت بي الذكرى فألقت ظلّها | في ناظريَّ كواكب الصحراءِ | |
مبهورة الأضواء يغشى ومضها | أشباح ركب لجَّ في الإسراءِ | |
أضفى عليه الليل ستراً حِيك من | عرف الجنان ومن ظلال (حراءِ) | |
أسرى ونام فليس إلا هِمَّة | باسم الحسين، وجهشة استبكاءِ | |
تلك ابنة الزهراء ولهى راعها | حلم ألمَّ بها مع الظلماءِ | |
تنبي أخاها وهي تخفي وجهها | ذعراً وتلوي الجيد من إعياءِ | |
عن ذلك السهل الملبَّد يرتمي | في الاُفق مثل الغيمة السوداءِ | |
يكتظ بالأشباح ظمأى حشرجت | ثم أشرأبَّت في انتظار الماءِ | |
مفغورة الأفواه إلا جثَّة | من غير رأس، لطخت بدماءِ | |
زحفت إلى ماء تراءى ثمّ لم | تبلغه وانكفأت على الحصباءِ | |
غير الحسين تصدّه عما انتوى | رؤيا فكُفـَّي با ابنة الزهراءِ | |
مَن للضعاف إذا استغاثوا والتظت | عينا (يزيد) سوى فتى الهيجاءِ |
* * *
بأبي عطاشى لاغبين ورضّعاً | صُفر الشفاه خمائص الأحشاءِ | |
أيد تمدُّ إلى السماء وأعين | ترنو إلى الماء القريب النائي | |
طام أحل لكل صاد ورده | من سائب يعوي، ومن رقطاءِ | |
عزَّ الحسين وجلَّ عن أن يشتري | ريَّ الغليل بخطَّة نكراءِ | |
آلى يموت ولا يوالي مارقاً | جمّ الخطايا، طائش الأهواءِ | |
فليصرعوه كما أرادوا إنما | ما ذنب أطفال وذنب نساءِ |
* * *
عاجت بي الذكرى عليها ساعة | مرَّ الزمان بها على استحياءِ | |
خفقت لتكشف عن رضيع ناحل | ذبلت مراشفه، ذبول خباءِ | |
ظمآن بين يدي أبيه كأنه | فرخ القطاة يدفُّ في النكباءِ | |
لاح الفرات له فأجهش باسطاً | يمناه نحو اللجَّة الزرقاءِ | |
واستشفع الأبُ حابسيه على الصدى | بالطفل يومىءُ باليد البيضاءِ | |
رجّى الرواء فكان سهماً حزَّ في | نحر الرضيع وضحكة استهزاءِ | |
فاهتزَّ واختلج اختلاجة طائر | ظمآن رفَّ ومات قرب الماءِ |
* * *
ذكرى ألمت فاقشعرَّ لهولها | قلبي وثار وزلزلت أعضائي | |
واستقطرت عيني الدموع ورنَّقت | فيها بقايا دمعة خرساءِ | |
يطفو ويرسب في خيالي دونها | ظلٌّ أدقُّ من الجناح النائي | |
حيران في قعر الجحيم معلق | ما بين ألسنة اللظى الحمراءِ |